الشرق الأوسط- تحولات جيوسياسية، صراعات هيمنة، ومعركة وعي تقرر المستقبل

المؤلف: د. محمد إبراهيم المدهون08.27.2025
الشرق الأوسط- تحولات جيوسياسية، صراعات هيمنة، ومعركة وعي تقرر المستقبل

تشهد منطقة الشرق الأوسط اليوم منعطفًا تاريخيًا ذا أهمية استثنائية، حيث تتداخل فيه تحولات جيوسياسية عميقة الجذور مع صراعات محمومة على النفوذ الإقليمي والدولي، مما يجعل المنطقة ساحة اختبار حقيقية تتنافس فيها قوى متعددة للسيطرة والنفوذ.

لم يعد السؤال عن "مهيمن الشرق الأوسط" مجرد استفسار جغرافي أو عسكري بسيط، بل هو تساؤل معقد متشابك يتقاطع فيه مفهوم الشرعية مع الوعي الجمعي المتنامي والتحالفات المتغيرة باستمرار، بالإضافة إلى مصير الشعوب التي تحمل على عاتقها مستقبل هذه المنطقة بأكملها.

تمثّل الحرب الشعواء على غزة، التي بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2023، نقطة تحول نوعي في تشكيل الرأي العام العالمي، ليس فقط بسبب حجم الإبادة الجماعية المروعة المرتكبة، بل أيضًا بسبب تداعياتها العميقة على بنية النظام الدولي القائم برمته ومفاهيمه الأخلاقية الراسخة.

فقد كشفت هذه المأساة الإنسانية عن الهشاشة المتزايدة للسردية الصهيونية الواهية في مواجهة أدوات التوثيق الرقمي الفوري، وفضحت ازدواجية المعايير الغربية الصارخة، حيث عجزت القوى الكبرى عن الحفاظ على الحد الأدنى من التوازن القيمي الذي تدعي تمثيله زيفًا وبهتانًا.

في المقابل، برزت القضية الفلسطينية العادلة كمؤشر أخلاقي حاسم يعيد ترتيب مواقف النخب والشعوب على أسس تتجاوز الاصطفاف السياسي التقليدي المعهود.

لقد فرضت غزة نفسها كعامل محفّز لإعادة تموضع الإنسانية على الساحتين الدولية والإقليمية، ولتشكيل شبكة تضامن مدني وشعبي عابرة للقارات، مما قد يفتح الباب واسعًا أمام تحولات إستراتيجية جوهرية تشمل اهتزاز مسارات التطبيع المخزية، وتنامي الضغوط الشعبية الحاشدة على الأنظمة العربية، وتوسّع الجبهة القانونية لمحاكمة الاحتلال الغاشم.

وعليه، فإن ما يجري في غزة الصامدة لم يعد شأنًا محليًا ضيقًا أو فلسطينيًا فحسب، بل تحول إلى قضية كونية مصيرية تُشكّل اختبارًا أخلاقيًا حقيقيًا للنظام الدولي برمته.

شهدت المنطقة في الآونة الأخيرة مواجهة مباشرة حادة استمرت اثني عشر يومًا بين إيران والمحور الصهيو-أميركي المتغطرس، كشفت عن بعض الثغرات في الدفاعات الجوية الإيرانية، لكنها في الوقت نفسه أظهرت قدرة إيران الفائقة على استهداف العمق الصهيوني حتى في قواعده المتقدمة المحصنة.

لم تكن هذه الجولة مجرد صدام عابر أو مناوشة طارئة، بل كانت نقطة تحول مفصلية تُبرز الهشاشة المتزايدة لتوازن الردع القائم على الاستنزاف المتبادل، وتُشير بوضوح إلى احتمال تصاعد المواجهات نحو جولات أكثر خطورة وتدميرًا، قد تؤدي إلى اتساع رقعة الصراع وامتداده إلى مناطق أخرى إذا ما وقع خطأ فادح في التقدير أو اتُخذ قرار متهور أحمق.

في ظاهر المشهد، تبدو الأمور هادئة نسبيًا، لكن خلف الكواليس كل طرف منهمك في شحذ أسلحته وتطوير قدراته: إيران تعيد التموضع بهدوء إستراتيجي حذر مدعومة بدعم صيني واقتصادي غير مسبوق، وأذرعها تتحرك بدقة متناهية في لبنان واليمن والعراق، بينما واشنطن تراقب المشهد بصمتٍ ذكيّ وتتهيأ للانخراط الفعلي عند لحظة الضغط القصوى.

في المقابل، تعيش تل أبيب صمتًا عسكريًا مشحونًا بالتوتر والقلق، تتخلله انفجارات داخلية سياسية وقضائية تهدد حكومة نتنياهو المتطرفة من العمق أكثر مما تهددها الصواريخ المتطايرة.

الجميع في حالة استعداد دقيق وترقب حذر لحدوث انفجار وشيك، حيث ستكون المعركة المقبلة أكثر من مجرد تبادل نيران عشوائي: إنها مواجهة إستراتيجية شاملة، إعلامية، وقانونية.. والأرض تشتعل تحت الرماد دون أن يسمع لها صوت.

وقد شهد وقف إطلاق النار الهش بين إيران والمحور الصهيو-أميركي ترحيبًا دوليًا حذرًا ومتحفظًا، وسط هشاشة الوضع الراهن وتصريحات متباينة بين القادة والمسؤولين. ففيما عبّر ترامب عن إحباطه وخيبة أمله، أعلن نتنياهو عن "تدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل"، رغم تقارير استخباراتية موثوقة تنفي ذلك جملة وتفصيلاً.

تناولت وسائل الإعلام الغربية البارزة -مثل نيويورك تايمز والإيكونوميست- وقف إطلاق النار كفرصة سانحة لتهدئة الصراع المتفاقم في غزة، لكن تحليلات أخرى متعمقة حذّرت بشدة من أن تجنّب إسرائيل المستمر لحل القضية الفلسطينية العادلة سيُبقي على دورة العنف الجهنمية قائمة ومستمرة إلى ما لا نهاية.

أكدت "فايننشال تايمز" أن الهدنة الراهنة ليست سوى مرحلة انتقالية هشّة ومؤقتة، وأن القرار الحقيقي يكمن في استعداد إسرائيل للانخراط الجاد في تسوية عادلة وشاملة تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، لا الاكتفاء بإدارة الصراع كأمر واقع مفروض.

في قلب هذا المشهد المعقد والمتشابك، يظلّ مشروع "إسرائيل الكبرى" التوسعي حاضرًا كأحد أبرز التهديدات الماثلة، إذ تسعى تل أبيب جاهدة لإقامة هيمنة شاملة ومطلقة من النيل إلى الفرات، لا تقتصر على الأرض الفلسطينية المحتلة فقط، بل تشمل تفكيك السيادة الوطنية للدول العربية وتحويلها إلى كيانات تابعة ضعيفة وهامشية.

المشروع لا يقوم فقط على السيطرة العسكرية الغاشمة، بل يمتد ليشمل الاقتصاد، والأمن، والتطبيع الثقافي المذل، وشبكات النفوذ الخفي المتغلغلة داخل مؤسسات الحكم العربية.

ورغم النجاحات الاستخباراتية والعسكرية التي يحققها المحور الصهيو-أميركي، فإن مشروعه الخبيث لقيادة "الشرق الأوسط الجديد" يصطدم بجملة من المعوّقات البنيوية المتراكمة: فرفض الشعوب العربية القاطع لهذا المشروع، وتماسك قوى المقاومة الباسلة، والأزمات الداخلية المتفاقمة، وغياب مشروع إقليمي جامع، كلها عوامل تُضعف بشدة من قدرته على فرض واقع استعماري مستدام.

كما أن اعتماد المشروع الإسرائيلي بشكل كلي على الدعم الأميركي المطلق يضعه في مأزق إستراتيجي حقيقي، خاصة مع تراجع نفوذ واشنطن التدريجي على الساحة الدولية، نتيجة لأزماتها الداخلية العميقة وضغوط ملفَّي أوكرانيا والصين، مما يقلّص من قدرتها على التحكم الأحادي بمسار المنطقة ومصيرها.

وقد بدأ هذا الفراغ الجيوسياسي يملأ تدريجيًا من قبل الصين وروسيا، عبر أدوات اقتصادية وعسكرية جديدة ومبتكرة، تمهّد الطريق لنظام دولي متعدد الأقطاب، يُنهي إلى الأبد عهد الهيمنة الأميركية المطلقة والبلطجة الدولية.

مصر، كقلب العالم العربي النابض، تُعد هدفًا مركزيًا في هذه الإستراتيجية، حيث تُهدّد محاولات التحكم بمياه نهر النيل، واستهداف قناة السويس الحيوية دورها الإقليمي والاقتصادي المحوري.

أما دول الخليج، فتواجه محاولات حثيثة لفرض شراكات أمنية مشبوهة تُضعف استقلال قراراتها السيادية وتجعلها تابعة وذليلة. وفي العراق وسوريا ولبنان والأردن، يحاول المحور الصهيو-أميركي تثبيت هيمنة نفسية وجوية خانقة تمنع هذه الدول من استعادة دورها السيادي الكامل والمستقل.

في المقابل، تبرز إيران كمحور مقاومة قوي يمتلك عمقًا إستراتيجيًا ممتدًا من غزة الصامدة إلى صنعاء الأبية، ويُعيد إنتاج خطاب تحرّري راسخ يربط بقاء الأمة بتحرير فلسطين من الاحتلال الغاشم.

فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، لم تعد مجرد أدوات ضغط بسيطة، بل صارت قوى فاعلة ومؤثرة تؤثّر عسكريًا وإعلاميًا وسياسيًا في معادلات المنطقة المعقدة.

غزة، رغم الحصار الجائر والدمار الهائل، تحوّلت إلى مركز ثقل أخلاقي، يُعيد تشكيل مشروعية المقاومة الفلسطينية، ويُفقد المحور الصهيو-أميركي ما تبقّى له من غطاء أخلاقي مزيف أمام الرأي العام العالمي.

في موازاة ذلك، لم تعد أدوات الصراع التقليدية هي الفيصل الوحيد في حسم الهيمنة على الشرق الأوسط، بل باتت جبهات الوعي تحتل الصدارة وتلعب دورًا حاسمًا.

فالإعلام المقاوم ووسائل التواصل الاجتماعي والتعليم والدين والثقافة والاقتصاد والذكاء الاصطناعي أصبحت ساحات مركزية في معركة التحرر المصيرية، تعيد تشكيل وعي الشعوب، وتكسر هيمنة السردية الكاذبة التي يفرضها الاحتلال، وتعزز خطاب المقاومة والعدالة والحقوق المشروعة.

هذا الحضور المتصاعد لتلك الأدوات يمنح المشروع التحرري امتدادًا نفسيًا وثقافيًا واقتصاديًا واسعًا، ويحوّله من فعل مقاومة عسكرية محدودة إلى مشروع حضاري شامل، يهدد منظومة السيطرة والاستعمار من جذورها، ويعيد تعريف موازين القوة ليس فقط من منظور عسكري بحت، بل من زاوية معرفية وقيمية وأخلاقية أعمق وأشمل.

في النهاية، لا يمكن التنبؤ بوجود سيّد واحد مهيمن على الشرق الأوسط القادم، بل إن المنطقة تتجه نحو شبكة معقدة ومتشابكة من اللاعبين المتنافسين والمتعاونين في الوقت نفسه، وفقًا للمصالح والظروف المتغيرة باستمرار.

"إسرائيل" رغم أزماتها الداخلية والخارجية المتفاقمة، تواصل السعي الحثيث نحو الهيمنة والتوسع، وإيران تعزز نفوذها المقاوم، بينما تعيد تركيا والسعودية ومصر تموضعها الإستراتيجي في المنطقة. الولايات المتحدة تتراجع تدريجيًا، فيما تتقدم موسكو وبكين بخطى ثابتة ومدروسة.

لكن المعركة الحقيقية التي ستحسم الوجهة النهائية للمنطقة ليست فقط في ساحات السياسة أو الجغرافيا، بل في ميدان الوعي والشرعية، أي في عقول وقلوب الشعوب.

سيد الشرق الأوسط القادم، سيكون من يملك الرؤية الحضارية الأعمق والأكثر شمولية، والقدرة الفائقة على بناء توازنات تحررية حقيقية تعيد للأمة سيادتها المسلوبة، وتمنح شعوبها الحرية والكرامة والعدالة في نظام عالمي جديد ومنصف.

"فالشرق الأوسط لا ينتظر مستعمرًا جديدًا بغيضًا، بل ينتظر قائدًا تحرريًا فذًا يعيد صياغة المعنى ويوحد الصفوف ويوجه البوصلة نحو المستقبل المنشود".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة